خلال القرن الرابع عشر، مرت البشرية بأتعس فتراتها، حيث شهد هذا القرن انتشار وباء الطاعون في مناطق عديدة من العالم، ليسفر عن سقوط عشرات ملايين الضحايا.
واتجه الجميع لاستخدام مصطلح الطاعون الأسود، أو الموت الأسود للإشارة إلى ذلك الوباء الذي سرعان ما اجتاح القارة الأوروبية، في حدود منتصف القرن الرابع عشر، مخلفاً قصصاً أرعبت الأجيال الآتية.
وعقب زوال فترة الموت الأسود، واصل وباء الطاعون الظهور بين الفينة والأخرى، في القارة الأوروبية ما بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر، ليتسبب في وفاة حوالي 70 مليون شخص.
وبسبب تراجع الإمكانيات العلمية والطبية في تلك الفترة، لم يكن الأطباء على دراية بدور البكتيريا المجهرية وتسببها في ظهور الطاعون.
في المقابل، آمن الجميع بنظرية غريبة حملت اسم نظرية الميازما (miasma theory) وبموجبها ألقى الأطباء باللوم على الروائح الكريهة، الملقبة بالهواء الفاسد، الصادرة عن الفضلات واللحم المتعفن وعدد من الأشياء الأخرى المصنفة بالوسخة، متهمين إياها بالتسبب في نشر المرض.
وبحسب نظرية الميازما، كانت الروائح الكريهة قادرة على إفساد الهواء وجعله ملوثا ومحملاً بالأمراض، وحال استنشاق هذا النوع من الهواء، يصاب الكائن الحي بالمرض ويكون عرضة للموت.
ظلت نظرية الميازما قائمة لقرون عديدة، إذ اعتمدها الأطباء لتفسير العديد من الأمراض، ولعل أبرزها الطاعون والكوليرا والملاريا.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، زالت تلك النظرية القديمة، بالتزامن مع تقدم الطب وظهور نظرية "جرثومية المرض" (germ theory of disease) التي أكدت على وجود ميكروبات مسببة للأمراض.
في غضون ذلك، عرفت فترة اعتماد نظرية الميازما ظهور نوع من الأقنعة الغريبة، والتي أثارت الرعب في نفوس الأوروبيين، لقرون عديدة بسبب ارتباطها بالأوبئة، بعد أن اتجه الطبيب الفرنسي شارل دي لورم (Charles Delorme) خلال القرن السابع عشر، إلى ابتكار لباس جديد في سعي منه لحماية الأطباء من الهواء الملوث خلال ممارستهم لمهامهم.
وكان هذا الطبيب الفرنسي صاحب سمعة جيدة بفرنسا، إذ عمل لصالح ثلاثة ملوك فرنسيين، هم هنري الرابع (Henri IV) ولويس الثالث عشر (Louis XIII) ولويس الرابع عشر (Louis XIV) .
ومع تواصل ظهور وباء الطاعون، اعتمد شارل دي لورم على ثياب الجنود ودروعهم كمصدر إلهام ليبتكر زيا طبيا جديدا، صنع من الجلد.
وشمل ابتكار الطبيب الفرنسي، لباساً غريباً، عبارة عن معطف طويل وحذاء وقفازات، وقناع على شاكلة مناقير الطيور عند مستوى الأنف والفم.
وشكل القناع المنقار الغريب أبرز سمات هذا الزي، إذ امتلك عدستين لحماية العينين، بينما ملئ جزء المنقار بالعديد من الأعشاب الطبية المعطّرة لتوفير رائحة طيبة لمرتديه.
ومن خلال هذا الإجراء الذي يتلاءم مع نظرية الميازما، آمن الأطباء بقدرتهم على حماية أنفسهم من الأمراض التي تتسبب فيها الروائح الكريهة، ليشكل هذا القناع نوعا من أنواع أقنعة الغاز البدائية.
وخلال فترة انتشار الطاعون، عمد الأطباء إلى ارتداء هذا الزي ووضع قبعة سوداء على رؤوسهم والتجول في أرجاء المدن حاملين معهم عصا كانوا يستخدمونها لجس الجثث المنتشرة في الشوارع، والتأكد من وفاة أصحابها.
وتزامنا مع تجولهم في الشوارع زمن الأوبئة، تحوّل الأطباء المجهزون بهذا الزي الغريب إلى مصدر شؤم وبؤس، كما لقبوا بالعقاب الإلهي و "رسل الموت".
في حين اتجه العديد من الأهالي إلى التضرع لأصحاب قناع المنقار، لحمايتهم من الطاعون وتخفيف آلام مرضاهم، إلا أن الأطباء لم يتمكنوا في تلك الحقبة من حماية أنفسهم، إذ لم يكن هذا الزي ذا قيمة تذكر لمجابهة الطاعون، فأصيب العديد منهم بالطاعون.
إلى ذلك، قدّم الأطباء خلال تلك الفترة أدوية غير فعّالة لعلاج المرض، بسبب جهلهم أساسا بمسبباته الحقيقية والعلمية.
الفجر | 04:10 |
الظهر | 11:44 |
العصر | 03:15 |
المغرب | 05:56 |
العشاء | 07:19 |