خلال الحرب العالمية الثانية، التقطت سفن الحلفاء، والطائرات العاملة في بحر الشمال إشاراتٍ غامضة، بدت أنها قادمة من مكانٍ بعيدٍ في الشمال. ومع اندلاع الحرب في شتى أنحاء أوروبا، جرى تجاهل تلك الإشارات، خاصةً مع عدم وجود مصالح حيوية متحالفة في أي مكان بالقرب من القطب الشمالي.
وفي الوقت الذي كان الحلفاء يتجاهلون تلك الإشارات الغامضة، كان النازيون يرسلون تلك الإشارات من منشأة سرية في القطب الشمالي، شمال روسيا مباشرةً. فماذا كان الغرض من إنشائها؟ وهل كانت هناك قواعد سرية غيرها؟ هذا ما نتناوله في السطور التالية؛ إذ نغوص في أعماق أبرز القواعد السرية والمخابئ التي شيدها النازيون، ونكشف عن مواقعها، وعما احتوت، والغرض من بناء كلٍّ منها.
في عام 2016، وعلى بعد آلاف الأميال من القطب الشمالي، ومئات الأميال فقط من الأراضي الروسية، اكتشف علماء روس بقايا قاعدة سرية على جزيرة نائية تعرف باسم «ألكسندرا لاند»، وكشف التحقيق الأثري الذي أُجري على القاعدة، بعد أن أصبح من الممكن استكشافها بفضل حرارة الطقس غير المعتادة، عن مئات العناصر التي كشفت عن تفاصيل حياة العلماء الألمان الذين عملوا هناك.
كان من بين تلك العناصر: ألغام ألمانية، وشظايا قنابل يدوية، وصناديق خراطيش، وذخيرة، إلى جانب الزي الرسمي والمعاطف والأكياس التي تحمل شعار الجيش الألماني النازي حينها. وقد شيد النازيون تلك القاعدة التي حملت اسم «صائدو الكنوز (Schatzgräber)» في عام 1942، أي بعد عامٍ من غزو هتلر لروسيا. ولكن ما الذي كان يفعله النازيون هناك؟
يعد التنبؤ بالطقس أمرًا حيويًّا للجيوش منذ العصور القديمة، من أجل تحقيق النجاح العسكري. ومع ظهور الراديو، وعلم الأرصاد الجوية الحديثة، بدأنا نفهم أحوال الطقس، وطريقة التنبؤ به. وبناءً عليه، أدرك النازيون الألمان أن التنبؤ بالطقس في البحار الشمالية سيكون أمرًا بالغ الأهمية لدعم جيوشهم في محاربة أساطيل إنجلترا المتفوقة، ولا يقل أهمية عن سلاح الجو البريطاني العظيم، والتي ستكون عديمة الفائدة خلال الطقس السيئ.
أيضًا رأى النازيون أن فهم عمل أنظمة الطقس، والتنبؤ به أمرٌ من شأنه أن يمنح ألمانيا ميزة حاسمة في الحرب، تسمح لقاذفاتهم بضرب أهداف العدو دون خوف من الوقوع في عواصف قد تفسد دقة عمليات القصف؛ لذلك شيدت ألمانيا محطة أبحاث جوية سرية على جزيرة «ألكسندرا لاند». ومن هناك، تمكَّن الألمان من مراقبة أنماط الطقس في القطب الشمالي، وإجراء أبحاث لفهم تقلبات الطقس.
وتضمنت بقايا القاعدة: قطعًا من بالونات الطقس، وترمومترات (مقياس الحرارة)، وأدوات فلكية، وجداول ومجلات مليئة ببيانات الأرصاد الجوية. وقد جرى إرسال أكثر من 700 تقرير عن الطقس عبر الراديو من تلك القاعدة إلى ألمانيا، وساعدت التقارير في التخطيط لحركة القوات والغواصات والسفن الألمانية. وسمحت تلك البيانات الحيوية لآلة الحرب النازية بتجنب سوء الأحوال الجوية، واستغلال الانقطاعات الوشيكة في العواصف المستمرة.
مع ذلك، فقد تخلى النازيون عن تلك القاعدة في عام 1944، بعد أن أصيب العلماء المتمركزون هناك بالتسمم؛ إثر تناولهم لحم دب قطبي ملوث، وجرى إرسال زورق ألماني لإنقاذهم. ولكنها لم تكن القاعدة الوحيدة، بل كان هناك المزيد من القواعد والمخابئ السرية، التي شيدها النازيون في مواقع متفرقة لأغراض مختلفة.
في الجنوب الشرقي من مدينة كاليه الفرنسية، يظهر معلم ضخم تشهد بقاياه المتهدمة على واحدٍ من أكثر مخططات هتلر جرأة! إنه «مستودع إبيرليسكيس (Blockhaus d’Éperlecques)»، الذي شُيِّد ليكون منشأة إطلاق سرية لصاروخ «V-2» الباليستي، الذي أطلق عليه النازيون «السلاح الخارق»، وكانوا يعلقون عليه أملهم بقلب موازين الحرب لصالحهم.
كان ذاك المستودع مشروعًا ضخمًا، يشمل مساحة شاسعة لبناء الصواريخ وتخزينها، بالإضافة إلى مصنع للأكسجين السائل، ومحطة طاقة مقاومة للقنابل، ومحطة قطار؛ للسماح بتسليم الصواريخ وجلب الإمدادات من منشآت الإنتاج في ألمانيا.
وقد بُنِي بين مارس (آذار) عام 1943 ويوليو (تموز) عام 1944، على أيدي آلاف العمال من أسرى الحرب، والمجندين قسرًا، الذين عملوا بالسُّخرة في نوبات مدتها 12 ساعة ليلًا ونهارًا؛ لتحقيق طموحات النازية.
لكن سرعان ما جذب الحجم الهائل للعمل انتباه رحلات استطلاع سلاح الجو الملكي البريطاني، ومع أن الحلفاء لم يتمكنوا من معرفة ما كان يجري هناك بالضبط، فإن أحد مستشاري تشرشل قال حينها: «إذا كان الأمر يستحق أن يبذل العدو كل هذا العناء لبناء الموقع، فيبدو أن الأمر يستحق منا تدميره».
وبالفعل، شنَّت القوات الجوية البريطانية والأمريكية قصفًا متكررًا على الموقع، ضمن سلسلة عمليات «القوس» التي استهدفت برنامج «أسلحة V» الألمانية؛ ما أدى إلى تدمير المبنى تمامًا، وتسبب في وفاة عديد من العمال الأسرى. وجعلت تلك التفجيرات الموقع غير صالح للاستخدام بالنسبة للنازيين، الذين أطلقوا عليه لاحقًا اسم «الكتلة الخرسانية».
ويعد الموقع حاليًا جزءًا من متحف مملوك للقطاع الخاص، يعرض تاريخ الموقع والبرنامج الألماني لأسلحة V. ويقع تحت حماية الدولة الفرنسية، بوصفه أحد المعالم التاريخية منذ عام 1986.
في غابة جيرلوز، بالقرب من قرية كيتزين البولندية، شُيِّد موقع شديد السرية يخضع للحراسة المشددة؛ حيث أُقيم فيه أحد مقرات الحرب الرئيسية للفوهرر (القائد) أدولف هتلر. إنه موقع «وكْر الذئب Wolfsschanze»، الذي كان أول مقر عسكري لأدولف هتلر على الجبهة الشرقية.
اكتمل بناء المقر في يونيو (حزيران) عام 1941، في غابة جيرلوز بالقرب من الحدود مع الاتحاد السوفيتي، وكانت تلك المنطقة إحدى أكثر المناطق المحصنة في الرايخ الثالث؛ حيث ضمت عديدًا من القلاع، وما يسمى بالمناطق المحصنة ذات الخنادق المضادة للدبابات، والأسوار الشائكة. فضلًا عن ذلك، جمع «وكر الذئب» مجموعة من المخابئ، والملاجئ، والثكنات؛ ليصبح واحدًا من عدة مقرات رئيسة للنازية في أجزاء مختلفة من أوروبا الشرقية.
وصل هتلر إلى ذلك المقر للمرة الأولى في 23 يونيو (حزيران) عام 1941، وأمضى هناك ما يزيد مجموعه على 800 يومٍ على مدار ثلاث سنوات ونصف حتى رحيله. وفي صيف عام 1944، بدأ العمل في توسيع وتعزيز عديد من مباني وكر الذئب الأصلية، إلا أن العمل لم يكتمل بسبب التقدم السريع للجيش الأحمر السوفيتي، خلال هجوم البلطيق في خريف عام 1944.
في ذلك المقر، جرى اتخاذ أهم قرارات آلة الحرب الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. وهناك أيضًا جرى الإشراف على عملية بربروسا – غزو الاتحاد السوفيتي – في عام 1941، وحدثت المحاولة الجريئة، وإن كانت غير ناجحة، لاغتيال الفوهرر بقنبلة في يوليو عام 1944. وكانت محاولة الاغتيال تلك ضمن خطة لإطاحة النظام النازي، والتي غامر بها كلاوس شينك فون شتاوفنبرج، لكن هتلر نجا منها بإصابات طفيفة، واستمر في حكمه حتى انتحاره في 30 أبريل (نيسان) عام 1945.
في 21 أبريل عام 1944، أصدر هتلر أمرًا ببدء بناء مصنع مخبأ جزئيًّا تحت الأرض، يحمل الاسم الرمزي «فاينجات 1 (Weingut I)»، والذي شُيِّد في إحدى الغابات في بافاريا العليا. وجرى التخطيط له على أن يكون جزءًا من شبكة مصنع مخفية مكونًا من تسعة طوابق؛ لإنتاج قاذفة قنابل «ميسرشميت مي 262 (Messerschmitt Me 262)».
وكان فرانز زافير دورش، كبير المهندسين في مجموعة الهندسة المدنية والعسكرية للرايخ الثالث، الرجل الذي وقف وراء هذا المشروع بأكمله. ووفقًا لعدد من الباحثين، كان النازيون يأملون في أن يكتمل بناء وتشغيل المصنع في غضون ستة أشهر، وأن ينتج أكثر من 900 طائرة شهريًّا.
وفي الوقت الذي كان فيه الحلفاء قد سيطروا بالفعل على المجال الجوي الألماني، وبدا واضحًا لمنظمي المشروع أنه لن ينتهي في الوقت المناسب لإحداث فرقٍ في الحرب، فقد جرت الموافقة على بنائه في جدول زمني مدته ستة أشهر. وقد شارك في بنائه نحو 10 آلاف عامل، كان من بينهم 8500 عامل بالسُّخرة ونزلاء معسكرات الاعتقال.
وبنهاية الحرب، كان قد اكتمل بناء سبعة أقسام فقط من إجمالي 12 قسمًا محصنًا مخططًا له، ولم يبدأ بناء المصنع نفسه. وفي بداية مايو (أيار) عام 1945، اكتشفت كتيبة الدبابات 47 التابعة للجيش الأمريكي موقع البناء السري، واستولت عليه لاحقًا. وبعد انتهاء الحرب في عام 1947، جرى تفجير الموقع بمئات الأطنان من مادة «T.N.T» المتفجرة، وتحطمت ستة من سبعة أقواس مكتملة البناء، ولم يبقَ سوى القوس السابع فقط.
ولا يزال هذا القوس قائمًا حتى يومنا هذا، وقد جرى إدراجه نُصبًا تذكاريًّا لمعسكر الاعتقال الذي كان في الموقع، وضم آلاف العمال الذين ماتوا وهم يحاولون تنفيذ المخطط النازي، حيث كان الإرهاق والمجاعة ووحشية القوات الخاصة سببًا في وفاة 3 آلاف سجين في ذلك الموقع، الذي لم يكتمل إنشاؤه ليظل شاهدًا على عديد من المشروعات المهجورة، التي لم يكملها الرايخ الثالث لحسن الحظ.
حصن «ميمييكس Mimoyecques» هو الاسم الحديث لمجمع عسكري تحت الأرض، يرجع للحرب العالمية الثانية، ويقع في شمال فرنسا، بالقرب من قرية ميمييكس. وقد بنته القوات الألمانية النازية بين عامي 1943 و1944؛ بهدف إيواء بطارية مدافع V-3، التي كانت تستهدف لندن، على بُعد 165 كيلومترًا.
وكان الاسم الرمزي لها في الأصل «المرج» أو «مشروع البناء 711»، والذي عمل على بنائه قوات عاملة ألمانية متخصصة في مجالات الهندسة والتعدين، بالإضافة إلى أسرى الحرب الذين جرى تجنيدهم للعمل بالسُّخرة.
ويتكون المجمع من شبكة من الأنفاق المحفورة تحت تل طباشيري، مرتبطة بخمسة أعمدة مائلة جرى فيها تركيب 25 مدفع V-3، تستهدف جميعها لندن. وكانت تلك المدافع قادرة على إطلاق 10 قذائف متفجرة شبيهة بالسهام في الدقيقة، أي 600 طلقة كل ساعة، على العاصمة البريطانية. وقال عنها ونستون تشرشل إنها ستكون «الهجوم الأكثر تدميرًا على الإطلاق».
لكن أعمال البناء في ذلك الحصن توقفت، مع تقدم الحلفاء أعلى الساحل بعد إنزال النورماندي. وسقطت القلعة في يد فرقة المشاة الثالثة الكندية في الخامس من سبتمبر (أيلول) عام 1944 دون مقاومة، بعد أيامٍ قليلةٍ من انسحاب الألمان من المنطقة.
المصدر: ساسة بوست
الفجر | 04:27 |
الظهر | 11:48 |
العصر | 03:13 |
المغرب | 05:48 |
العشاء | 07:09 |