«ف. بوليسي»: الأثرياء يربحون والفقراء يخسرون.. هل أصبحت محاربة التضخم صراعًا طبقيًا؟
«ف. بوليسي»: الأثرياء يربحون والفقراء يخسرون.. هل أصبحت محاربة التضخم صراعًا طبقيًا؟

الأحد | 27/02/2022 - 06:13 مساءً

يبدو أن قرارات البنوك المركزية في إطار محاربة التضخم تُركِّز على أن الأثرياء يربحون، والفقراء يخسرون، مهما حدث. وهذا ما خلُصت إليه ليا داوني، وهي باحثة أكاديمية في معهد شيفيلد المتخصص في أبحاث الاقتصاد السياسي، في مقالها المنشور بمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية.

في مستهل مقالها تُشير الكاتبة إلى أن البنوك المركزية بدأت في التعامل مع التضخم؛ إذ رفع بنك إنجلترا في فبراير (شباط) 2022 أسعار الفائدة الأساسي للمرة الثانية خلال شهرين، ومن المتوقع أن يفعل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأمر ذاته خلال اجتماعه الذي سينعقد في مارس (آذار) 2022. (المثير للاهتمام أن بنك روسيا المركزي فعل ذلك أيضًا، ولم تستطع التهديدات باندلاع الحرب ضد أوكرانيا كسر الإجماع السائد للبنوك المركزية الحديثة). وبالتزامن مع هذا التحول في السياسة النقدية طلب أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، من الطبقة العاملة عدم الضغط من أجل زيادة الأجور، على الرغم من حقيقة أن بيلي نفسه يتقاضى راتبًا سنويًّا كبيرًا.

محاربة التضخم: صراعٌ طبقي!

تقول الكاتبة: إن الفرق بين الدخل الشخصي الذي يتقاضاه بيلي، والطلب الذي طلبه من العمال، أشبه ما يكون بـ(النغمة النشاز) التي استمع إليها كثيرون، وأكَّدوا على خطئها، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنه صراع طبقي: كيف يُعقَل أن أتركَ العمال يُعانون، بينما أجلسُ داخل قلعتي الممتلئة بالسبائك الذهبية. وتكمن المشكلة في هذا الجزء المحدد من الصراع الطبقي كما يبدو أنه لا يوجد سبيل لفوز الطبقة العاملة بهذا الصراع. إنها حالة تتلخص في أن أصحاب الأصول يربحون، والطبقة العاملة تخسر مهما حدث.

وتوضح الكاتبة أنه فيما يخص أصحاب الأصول، ستكون البنوك المركزية هي التي ترفع أسعار الفائدة للتصدي للتضخم وتحقيق أسعار منخفضة ومستقرة. ووُضع مسار العمل ذلك لدعم قطاع مالي خاص قوي، وهو أمر يعتقد كثيرون أنه سيعود بالنفع على الجميع، ولا يريد أي شخص أن يحدث انهيار مالي آخر على غرار الانهيار الذي شهده عام 2008. ومع ذلك سيؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى صعوبة تحمُّل الطبقة العاملة قروض الرهن العقاري وغيرها من القروض، والأهم من ذلك أن رفع معدل أسعار الفائدة سيؤدي إلى انخفاض استثمارات القطاع الخاص والتوظيف، وزيادة معدل البطالة، وبصفة عامة من المحتمل أن يُؤدي رفع أسعار الفائدة إلى تدهور الظروف المعيشية.

أما فيما يخص الطبقة العاملة، فتقول الكاتبة: لن يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة؛ مما يسمح للتضخم الموجود بالفعل بالاستمرار. ويعني هذا ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتكاليف الطاقة والإسكان؛ مما يُؤدي إلى أزمة في مستوى المعيشة من شأنها أن تعصِف بالفئات الأشد فقرًا، لكن يجب ألا ننسى أن الحفاظ على مستوى المعيشة في ظل ارتفاع الأسعار لا يكون أمرًا مأساويًّا بالفعل، إلا عندما لا يتمكن الشخص من الحصول على زيادة في الأجور تتناسب مع هذه المستجدات.

وهذا الأمر يضعنا في مأزق. وحتى لو اتفقنا جميعًا على أننا نريد أن نقدم أفضل ما لدينا لصالح الطبقة العاملة، فما هو مسار العمل الذي يجب علينا أن ندعمه؟ فنحن لا نريد فقط أن نترك التضخم يتوحش، ولكن يبدو أن «فِعل أي شيء بشأن التضخم» يعني رفع أسعار الفائدة، وهو ما سيلحق الضرر بمَنْ هم أسوأ حالًا بيننا.

دوامة ارتفاع الأجور والأسعار!

وتساءلت كاتبة المقال قائلةً: إذًا ما الذي يجب أن تفعله البنوك المركزية؟ اقترح بعض المراقبين استبعاد آلية سعر الفائدة التقليدية، وتبني وضع ضوابط على الأسعار، وهو ما تسبب في إثارة كثير من الأقاويل والثرثرة الهجومية والمهينة في مجتمع الاقتصاد. لكن لماذا حدث ذلك؟ إذا كان بإمكان بيلي أن يطلب من العمال عدم الضغط من أجل زيادة الأجور، فلماذا يُعد اقتراح أن تطلب الحكومة من الشركات عدم رفع الأسعار اقتراحًا سخيفًا جدًّا، خاصة في ظل ما حققته تلك الشركات من أرباح قياسية مؤخرًا؟ وكما قال الخبير الاقتصادي دومينيك لوسدر، إن «الرسالة تبدو واضحة: وضع ضوابط على الأسعار أمر جيد، ولكن عندما ينطبق ذلك على الطبقة العاملة فقط».

وفي الوقت الراهن يتمثل الشاغل الرئيس للبنوك المركزية في تجنُّب دوامة ارتفاع الأجور والأسعار. والفكرة هي أنه إذا افترضنا أن العمال لديهم ما يكفي من القوة، فإنهم سيطالبون بزيادة الأجور مقابل ارتفاع الأسعار للحفاظ على مستوى معيشتهم. وعندما ترتفع الأجور، سترتفع الأسعار من جديد؛ مما سيؤدي إلى زيادة الأجور، وهكذا دواليك تستمر الدائرة. وبعبارة أخرى يُعد التضخم الجامح الخطير خطأ العمال بسبب مطالبتهم بزيادة الأجور. ومن هذا المنطلق خرجت تصريحات بيلي.

لكن إذا عدنا إلى القواعد والأسس، فسيكون بمقدورنا أن نكتشف سريعًا مدى غرابة هذه القصة. ويُفهم التضخم عادةً على أنه ارتفاع عام في الأسعار. وهذا لا يحدث من تلقاء نفسه فقط. إذ ترتفع الأسعار عندما تُقرر الشركات زيادتها. لذلك سنجد أن العلاقة بين التضخم وقرارات الشركات أوضح وأوثق بكثير من العلاقة بين التضخم والطبقة العاملة التي تطالب بزيادة الأجور لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة. ومرةً أخرى لماذا تكون الاستجابة الافتراضية للتضخم أن يُطلب من العمال أن يتحملوا المعاناة الناجمة عن أوجاع ارتفاع الأسعار التي تتجاوز الأجور بدلًا عن مطالبة الشركات بالتضحية ببعض أرباحها القياسية؟

خدمة مصالح فئة واحدة من المجتمع!

يؤكد المقال أن قوة القصة المتشابكة التي تدور حول الأجور والأسعار والرفض الشديد لاقتراح وضع ضوابط على الأسعار تكشف أمرًا بسيطًا: وهو أن الإطار المحدود الحالي لسياستنا النقدية يخدم مصالح فئة واحدة في المجتمع: التمويل الخاص.

ويبدو أن نظام السياسة النقدية السائد الحديث مكرَّس للحفاظ على استقرار النظام المالي الخاص، من خلال ضمان استقرار الأسعار (في صورة تضخم بنسبة 2٪)، وعن طريق الأنظمة المالية منذ عام 2008. ومن منظور تاريخي، لا ينبغي أن يكون هذا مفاجأة حقيقية، لأن هذا هو الهدف من وضع نظام السياسة النقدية. وفي الولايات المتحدة، تأسس بنك الاحتياطي الفيدرالي بعد الذعر المصرفي لعام 1907 (أزمة مالية اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية حينما انهارت سوق البورصة بصورة مفاجئة فاقدة حوالي 50٪ من الحد الأقصى للقيمة المالية) لتأمين استقرار النظام المصرفي الخاص ونجاحه. وفي المملكة المتحدة أُنشئ بنك إنجلترا، وهو مؤسسة خاصة تسعى للربح على مدار تاريخها، لخدمة القطاع المصرفي الخاص وتمويل الحرب.

وفي الوقت الحاضر يُعد بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وبنك إنجلترا بمثابة السلطات المسؤولة عن السياسة النقدية في بلادهما؛ إذ يرسمان وينفِّذان السياسة العامة لإدارة المعروض النقدي. ولابد أن يضع الناس السياسة العامة من أجل تحقيق صالح الشعوب كلها، باعتبار ذلك الغاية النهائية للسياسات الديمقراطية. ومع ذلك، وفيما يتعلق باكتساب سلطات السياسة العامة، لم يتخلَّ الاحتياطي الفيدرالي أو بنك إنجلترا عن ارتباط البنية التحتية التأسيسية بالنظام المالي الخاص، ولم ينفكَّ هدفهما الأساسي عن خدمة النظام المالي الخاص.

وهذا ما يجعل مثل هذا الموقف صعبًا. إننا اليوم أمام بنوك مركزية مستقلة أُنشِئت لخدمة مصالح قطاع واحد من المجتمع، وهو التمويل الخاص، باستخدام الصلاحيات الهائلة للسياسة العامة. وهذا هو السبب الذي جعل بيلي يطلب من العمال عدم الضغط من أجل زيادة الأجور بدلًا من مطالبة الشركات بعدم رفع الأسعار. ولهذا السبب أيضًا، عندما يتعلق الأمر بنظام السياسة النقدية الحديث، سنجد موقفها متمثلًا في أن الأغنياء يربحون والفقراء يخسرون مهما حدث.

هل توجد بدائل؟

تتساءل الكاتبة: كيف كانت ستبدو السياسة النقدية إذا كانت تخدم جميع فئات المجتمع على قدم المساواة؟ وتجيب إجابة موجزة قائلة: إن مثل هذه السياسة النقدية ستبدو أشبه بأنواع أخرى من السياسة العامة، وستكون أكثر اتِّسامًا بالطابع السياسي. وتنفيذ مثل هذا النهج للسياسة النقدية ربما يعني توسيع مجموعة السياسات الممكنة إلى ما بعد الثنائي الحالي، تفاقم التضخم أو رفع أسعار الفائدة، لدمج السياسات التي قد لا تعطي الأولوية لمصالح أصحاب الأصول.

ويجد البعض صعوبة في تصور وجود خيارات سياسية بخلاف تعديلات أسعار الفائدة التقليدية القصيرة الأجل. وهذا في حد ذاته دليل على قوة الإطار المهيمن على صنع السياسة النقدية. ولكن توجد بدائل بالطبع: مثل ضوابط الأسعار، والتوجيه الائتماني، وتقديم القروض والخدمات المصرفية العامة (بنكهاتها المختلفة)، على سبيل المثال لا الحصر.

وفي ختام مقالها، تؤكد الكاتبة على أن تبني نهج أكثر ديمقراطية لوضع السياسة النقدية لا يتطلب بالضرورة تبني أي من بدائل السياسة المحددة تلك. ومع ذلك، فإن النهج الديمقراطي لصنع السياسات، بغض النظر عن النتيجة، يتطلب عدم التلاعب بالعملية بحيث تخدم السياسة الناتجة مصالح فئة (أقلية) واحدة في المجتمع.

تمامًا كأن ترمي العملة المعدنية رمية عادلة، فإذا جاءت على وجهها أفُز أنا، وإذا جاءت على ظهرها تفُز أنت، وبهذا يتوفر لكل منا فرصة متكافئة لتعزيز مصالحنا الخاصة، وسيتطلب إرساء نهج ديمقراطي عادل لإدارة السياسة النقدية البحث عن بدائل تتجاوز السياسات الحالية، والتي يربح فيها الأثرياء (رفع معدل أسعار الفائدة) ويخسر فيها الفقراء (ارتفاع معدلات التضخم).



التعليـــقات 
جميع التعليقات تعبر عن وجهة نظر اصحابها وليس عن وجهة نظر طقس فلسطين

النشرة الجوية
جاري التحميل ..
أحدث الاخبار
أوقات الصلاة
الفجر 04:38
الظهر 12:38
العصر 04:17
المغرب 07:12
العشاء 08:39