جبل النمل.. ملحمة الحرب والسلام وأسطورة العيش المشترك
جبل النمل.. ملحمة الحرب والسلام وأسطورة العيش المشترك

السبت | 05/11/2022 - 05:24 مساءً

المكان: جبال جورا على الحدود السويسرية الفرنسية.

الزمان: ذاتَ جليدٍ متراكمٍ من شهر فبراير/شباط.

الحدث: ثمة وحشٌ هائل يتململ من تحت طبقات الثلج المتعددة ينتظر بفارغ الصبر أن تتسلل بعض خيوط الشمس عبر تلك السحب السوداء الكثيفة؛ لتعطي المكان شيئا من الدفء الذي طال انتظاره، وتطلق إشارة البدء لذلك المارد ليتحرر من قمقمه.

أما ذلك المخرج العجوز فقد نصب كاميراته من مختلف الأنواع والقدرات، الحرارية منها وتحت الحمراء وذات الدقة المتناهية في التقاط الصور، استخدم تلك الموسيقى التصويرية الملحمية التي تنقلك إلى أجواء حروب ما قبل التاريخ، ليخرج لنا فيلما غايةً في الجمال والروعةً في تسجيل أدق التفاصيل، وتعرضه لنا فيما بعد قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان “جبل النمل”.

الوحش النائم.. نمل الخشب

تختبئ تحت هذه التلال السوداء الصغيرة المنتشرة في الغابة المتجمدة ما يقرب من نصف مليار نملة. إنه بحقٍ وحشٌ هائل من نمل الخشب الذي يقضى آخر فترات سباته الشتوي الطويل قبل أن ينبعث من جديد ويُشعِل أرض هذه الغابة بالحركة والنشاط والأكل بنهمٍ والتزاوج والحروب والقتل والدمار، ولتستمر دورة الحياة كأنما السنة كلها ليلة وضحاها.

في البحث عن سر احتفاظ جموع النمل بدرجة الحرارة اللازمة للحياة في سراديبها تحت الأرض، توصل العلماء إلى وجود نظام تدفئة مركزي يعتمد على الحرارة المنبعثة من تحلل بعض النباتات التي يجلبها النمل إلى بيوته أثناء فترات الصيف. أما في بدايات الربيع فإن جموع النمل العامل تستخدم أجسادها كمحطات لتخزين الطاقة الشمسية في فترات خروجها من بيوتها، ثم العودة لتبث ما جمعته من تلك الطاقة لتدفئة البيوض والشرانق الجديدة.

مع انحسار الجليد شيئا فشيئا تخرج رائدات النمل لاستكشاف النهار الجديد، سيكون نهارا يمتد على مدى أشهر الصيف القليلة في هذا المكان، وتعود الكشّافات لتبشر أهل السراديب المظلمة بالدفء والنور، وتكشف الحجب عن جيش عظيم من نصف مليار نملة أو يزيد، ينتشرن في أنحاء المستعمرة في تلك الغابة الشاسعة، لينلن الدفء ويتخلصن من الأمراض والفيروسات والفطريات التي علقت بهن في فترة السبات، وذلك بالاستفادة من الأشعة فوق البنفسجية التي تطلقها الشمس.

في بدايات الربيع جموع النمل تستخدم أجسادها كمحطات لتخزين الطاقة الشمسية

في بدايات الربيع جموع النمل تستخدم أجسادها كمحطات لتخزين الطاقة الشمسية

على أننا يجب أن نشير هنا إلى وجود مستعمرات أخرى كثيرة في هذه الغابة، ليست كلها من نمل الخشب، بل هناك أنواع أخرى كثيرة لها مستعمراتها الخاصة بها.

يظهر بين جموع النملات الصغيرة الحجم بعض النمل ذي الحجم الأكبر، إنهن ملكات النمل يخرجن تحت حراسة مشددة من النمل العامل ليتشمسن قليلا ويأخذن حظهن من الغذاء الطازج. بضع عشرات من الملكات في كل تلة، يمكن إحصاء ما يقرب من مليون ملكة في كل مستعمرة، وظيفة هذه الملكات أن يضعن بيوض النمل المجنح من الذكور والإناث، والتي ستفقس لاحقا في شهر يونيو/حزيران، وهي التي بدورها ستتزاوج فيما بعد لتنتج ملايين النمل العامل، ذلك الذي سيحمل سر الحياة إلى الأجيال اللاحقة في السنوات القادمة.

بعد قليلٍ من التشمس ستعود الملكات إلى بيتهن طوعا أو كرها بواسطة النمل العامل الذي يجرهن رغما عنهن إلى البيوت حفاظا على حياتهن. في الحقيقة ليس للملكات تلك السلطات التي تمكنهن من اتخاذ قرارات مستقلة، ولكنهن تحت سلطة الجماعة العاملة من النمل؛ وذلك لصالح المملكة ككل.

حماية الحدود وتوسيع الأراضي

تواصل الكشّافات تقدمهن في أنحاء المستعمرة للوقوف على آخر التطورات على الحدود، هناك مستعمرات أخرى كثيرة متاخمة، وليست كلها جموع صديقة، مما ينذر بوقوع حروب مدمرة للسيطرة على مواطن جديدة للغذاء والسكن.

تلتحم قرون الاستشعار من أجل الكشف عن هوية المتسللين عبر الحدود. تنبئُ الشيفرة الكيميائية على المجسات عما إذا كان الخصم صديقا أم عدوا، ثم تعود الكشافات يستصرخن جموع العاملات لمواجهة الخطر الداهم الذي يهدد حدود المستعمرة.

طبول الحرب تقرع، وترتجف الأرض تحت وقع خُطا ملايين الجنود من النمل العامل، وتشتبك الجموع في معركة دامية، وتتطاير الأشلاء وتتناثر الجثث، وتنبعث في الأجواء رائحة غريبة، ذلك أن سلاحَ المعركة الدائرة كيميائيٌ بامتياز.

تطلق النملات حمض “النمليك” من الجزء الأسفل في بطونهن، وتتشارك عدد من النملات (قد يصل العدد إلى سبع نملات ضد واحدة) في تقطيع أطراف النملة الخصم من أجل إيجاد ثغرة في جسدها، ومن ثم يتم حقن الحمض داخل جسدها، ومن شأن هذا الحمض أن يتلف أعضاءها الداخلية ويؤدي بها إلى الموت الأكيد.

اكتشف العلماء أن الجحور التي تحتوي على صمغ الشجر يتمتع ساكنوها من النمل بصحة أكبر

اكتشف العلماء أن الجحور التي تحتوي على صمغ الشجر يتمتع ساكنوها من النمل بصحة أكبر

وبينما تدور المعركة في السهول، يمكنك أن ترى بعض النملات وقد تسلقن جذوع النباتات المرتفعة في المكان، ويبدو أنهن يستطلعن الثغرات التي يتوجب سدُّها بمددٍ من جيوش الاحتياط، أو يرصدن انهيار دفاعات الخصوم من أجل توجيه جيوشهن إلى الاندفاع أماما والسيطرة على المساحات المحررة.

ينقشع غبار الحرب، وتنجلي المعركة عن عشرات آلاف القتلى من الطرفين، وتهرع النملات العاملات إلى إجلاء الجثث من أرض النزال إلى بيوتها، لتكون هذه الجثث خزينا بروتينيا مُشبِعا للشتاء القادم.

وليست كل الأخطار قادمة من مجتمعات النمل الأخرى، بل هنالك خطر يتمثل في الأبقار التي ترعى في شهر مايو/أيار من كل عام في هذه السهول البرية الخصبة، لتنتج أجود أنواع الجبن السويسري الذي يحرص المزارعون على تصنيعه من المراعي البرية، وعند اقتراب البقر من بيوت النمل تتحفز ملايين النملات العاملات للدفاع عن أنفسهن وعن بيوتهن من التدمير المحقق تحت أظلاف البقر، فتسارع إلى إفراز كميات من حمض النمليك الذي يتكفل بإيجاد حالة من الاشمئزاز لدى البقر لحظة دخول الحمض في أنفه مما يدفعه إلى التراجع بعيدا عن هذه التلال التي فيها بيوت النمل.

تنويع مصادر الغذاء

غير أن الحياة ليست بهذه القسوة دائما، بل تتسع أيامها لكثير من أسباب التعاون والعيش المشترك، مما يجعل من مجتمع النمل مجتمعا مترابطا بامتياز، فقد أجرى العلماء تجربة فريدة بوضع مركب كيميائي في أحد أطراف الغابة ليجدوا بعد بضعة أسابيع أن آثار هذا المركب قد ظهرت في الطرف المقابل من الغابة على بعد كيلومترات عديدة، مما يعني أن جموع النمل في مختلف بيوت هذه المستعمرة الشاسعة قد تشاركت الغذاء فيما بينها.

يُعد شجر التنوب المنتشر بكثرة في هذه الغابة مصدرا أساسيا لأنواع مختلفة من الغذاء لنمل الخشب. وينمو على هذه الأشجار نوع من المنّ لا يستخدمه النمل كغذاء مباشر، ولكنه يرعاه ويحافظ عليه من الأعداء حتى يتمكن المن من التغذي بحرية وأمان على عصارة الشجر، وينتج منها سائلا حلوا يسمى ندى العسل يحبه النمل كثيرا ويغرف من ذلك المن حتى يملأ بطنه، ويعود إلى جحوره ويملأها بالدفء المنبعث من ذلك العسل.

ويستفيد النمل كذلك من صمغ الشجر، فقد اكتشف العلماء أن الجحور التي تحتوي على صمغ الشجر يتمتع ساكنوها من النمل بصحة أكبر، وتكون إنتاجيتها من البيوض واليرقات الصحيحة أكثر؛ لأن النمل يخلط إفرازاته الحمضية مع هذا الصمغ لينتج مضادات حيوية غاية في الفاعلية من شأنها أن تقضي على طيف واسع من البكتيريا والميكروبات، وتنتج مجتمعا سليما من الآفات والأمراض داخل هذا البيت. الطريف في الأمر أن النمل يجمع ما يقرب من أربعة كيلوغرامات من الصمغ داخل البيت الواحد.

عملية تكاثر نمل الخشب عملية فريدة تتم على مرحلتين

عملية تكاثر نمل الخشب عملية فريدة تتم على مرحلتين

ولا تقتصر مصادر الغذاء على شجر التنوب وما عليه من المن، ولكن كل أنواع الحشرات في الغابة سوف تصبح هدفا مشروعا لجيوش النمل، فشهر يونيو/حزيران على الأبواب، واليرقات والبيوض تتطلب غذاءً إضافيا من البروتينات.

حاسة الرؤية لدى النمل محدودة، ولكنها تنشط عند تحرك الفريسة، وتكفي مسحة من الحمض الكيميائي الذي تلصقه نملة بجسم الفريسة أن تجعلها معرضة للمطاردة من مئات النملات اللاتي سيدركنها فيما بعد، ويقطعنها إربا ثم يذهبن بها إلى بيوتهن.

طقوس الزواج.. حماية أسرار البقاء

كما أسلفنا سابقا، فإن عملية تكاثر نمل الخشب عملية فريدة تتم على مرحلتين؛ الأولى هي تلك البيوض واليرقات الموجودة الآن داخل البيوت والتي ستفقس في يونيو/حزيران عن النمل المجنح من الذكور والإناث، وهي تمثل المرحلة الوسيطة من التكاثر. أما المرحلة النهائية فتتم عن طريق تزاوج الذكور والإناث من النمل المجنح لتموت بعدها الذكور المجنحة، وتبدأ الإناث بالبحث عن بيوت جديدة لتضع فيها البيض الذي سيُنتج فيما بعد الجيل القادم الجديد من ملكات وعاملات نمل الخشب.

ينتصف شهر يونيو/حزيران وتنتشر في محيط المستعمرة مئات آلاف النمل من الزوجين الذكر والأنثى وتنطلق في رحلتها الغريزية إلى موطن التزاوج. ومن كل أقطار الغابة يجتمع نحو مليون زوج في بقعة محددة كل سنة لإتمام طقوس الزواج، فتبدأ الإناث بإفراز هرمونات جاذبة تنطلق في الأجواء لتدعو الذكور إلى مخادع الجماع على سيقان النباتات المرتفعة.

يبدأ التزاوج، وتعيش الذكور آخر لحظات حياتها القصيرة تستمتع بأقصى درجات اللذة والسعادة مع الأنثى التي بدورها تمتص رحيق الحياة من الذكور حتى الثمالة، ليتسنى لها أن تلقح بها أجيالا من البيض للسنوات القادمة. أما الذكور فتموت بعد أن ينهكها الإجهاد، بينما تبدأ الأنثى بالتخلص من أجنحتها التي لم تعد لها حاجة بعد التزاوج.

حاسة الرؤية لدى النمل محدودة، ولكنها تنشط عند تحرك الفريسة

حاسة الرؤية لدى النمل محدودة، ولكنها تنشط عند تحرك الفريسة

يراود الملكات الجُدد المتزاوجات الحلم الآن ببناء بيتهن الخاص المستقل، فقد بتن غير مرحب بهن من باقي أفراد المستعمرة القديمة، وانتقالهن إلى مستعمرات أخرى لنمل الخشب أصبح محفوفا بخطر الموت المحقق. إذن فسوف نرى من الملكة المتزاوجة الجديدة تصرفا لم نعهده من قبل، ولن يخطر على بال أحد.

سوف تقصد الملكة جوارا آخر تحتمي به، إنها بيوت نمل الحقل الذي يبدو أصغر من الملكة بثلاثة أضعاف. تبدأ الملكة بشن بعض المناوشات الخفيفة مع أفراد بعيدة عن جماعاتها من نمل الحقل، وهي بذلك تكتسب نوعا من التمويه الكيميائي جراء تلاصقها مع المواطنين، ومع تقدمها شيئا فشيئا إلى البيوت تصبح ملكة متطفلة تحمل قناعا كيميائيا تمويهيا بامتياز.

في داخل البيت يكون مصير معظم الملكات الموت المحقق بعد أن تقطعها نملات الحقل العاملة التي لم تنطل عليهن حيلة القناع الكيميائي، أما العدد القليل من الملكات الناجيات فسينبهر بهن سكان البيوت المحليون، ويبدؤون بتقديم فروض الولاء والطاعة لهذه الملكة الغريبة القادمة من خلف الحدود. أما هي فتبدأ بوضع الدفعة الأولى من بويضاتها الملقحة.

إستراتيجية السلام.. ضمان لحياة أطول

لا تضطر كل الملكات للاستيلاء على بيوت الحقل من أجل الانطلاق في رحلة الحياة من جديد، فبعضهن يعود أدراجه إلى بيوتهن الأولى، ولكن العملية لا تتم دائما بيسر وسهولة، فذلك يعتمد عادةً على المزاج العام للنملات العاملات اللواتي يستقبلن الملكة المتزاوجة؛ فإذا كان المزاج حادا لقيت الملكة حتفها المحتوم، وباتت طعاما لأفراد القطيع، أما إذا كان المزاج حسنا فقد ضمنت الملكة منطلقا جديدا لحياتها وحياة بويضاتها القادمة.

وفي المستعمرات العملاقة طوّر نمل الخشب إستراتيجية جديدة للتكاثر والاستمرار؛ تقضي بأن يكون التزاوج محليا دون الحاجة إلى عناء الطيران والسفر إلى عوالم أخرى. لقد أتاحت هذه المبادرة السلمية آفاقا جديدة للتعاون والسلم المجتمعي القائم على التعاون والتشارك في سبيل مملكة عملاقة أكبر؛ تلك الإستراتيجية التي قال عنها العلماء إن البشرية اتبعتها منذ بدء الزمان واستطاعت من خلالها السيطرة على الكوكب. فهل ذلك يعني أن السلام هو الحل الأنجع للتعايش، وهل ستشاركنا نحن البشر مجتمعات أخرى من المخلوقات اتخذت من السلام مصعدا لقيادة الأرض؟



التعليـــقات 
جميع التعليقات تعبر عن وجهة نظر اصحابها وليس عن وجهة نظر طقس فلسطين

النشرة الجوية
جاري التحميل ..
أحدث الاخبار
أوقات الصلاة
الفجر 05:09
الظهر 12:44
العصر 04:15
المغرب 06:57
العشاء 08:20