في صباح 27 ديسمبر/كانون الأول الجاري، استيقظ المسن المقدسي آدم خليل سمرين على أصوات مستوطنين إسرائيليين وقد شرعوا في تسييج "أرض الحمراء" التي زرعها وحرسها منذ شبابه.
كان سمرين (80 عاما) ينظر بحسرة إلى قمع قوات الاحتلال لمقدسيين حاولوا التصدي لعملية الاستيلاء. وقال إن إبعاده عن الأرض 15 يوما ثم اعتقاله قبل يومين من الحدث لم يكن مصادفة أبدا.
وتُعد "أرض الحمراء" إحدى أهم الأراضي في بلدة سلوان (جنوبي المسجد الأقصى المبارك في القدس المحتلة)، وتعود ملكيتها لكنيسة الروم الأرثوذكس. وبمجرد الاستيلاء عليها، بدأت فرق الاحتلال الحفريات فيها، معلنة أنها ستفتتح ما تسميه "بركة شيلوخ" الأثرية.
صورة جوية قديمة لوادي الربابة تظهر أرض الحمراء على المفترق تملؤها الأشجار (مواقع التواصل)
تزيد مساحة أرض الحمراء على 5 دونمات (الدونم ألف متر مربع)، وتبعد عن سور القدس الغربي نحو 300 متر، وتقع على مفترق طرق مهم يؤدي إلى واديي حلوة والربابة في سلوان، وتعد من أخفض الأراضي في القدس التاريخية بارتفاع 625 مترا عن سطح البحر.
وتلاصق هذه الأرض مسجد سلوان وعين سلوان (أقدم عيون القدس الكنعانية) التي تغمر الأرض بالماء طوال العام، حتى غدت الأخصب في المنطقة.
يقول شادي سمرين "كانت جداتي يحملن خيرات أرض الحمراء في سلال ويقايضنها أو يبعنها في باب العامود، وتربى أبي وأعمامي من خيراتها".
ويتحدث ابن العائلة التي تتولى رعاية الأرض منذ نحو قرن عن خصوبتها وزراعتها بأشجار التين والحمضيات والخضراوات، بالإضافة إلى تربية الدواجن فيها.
ويضيف شادي أن جديه إبراهيم وخليل عوض سمرين استأجرا الأرض من بطريركية الروم الأرثوذكس لزراعتها منذ عام 1928 بعقد متجدد سنويا، مستعرضا العقود المختومة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وقال إن عقد الإيجار جُدد حديثا حتى نهاية عام 2023.
وبعد الاستيلاء على الأرض، تقدّمت عائلة سمرين بطلب احترازي لمنع اقتحامها وإقامة حفريات فيها، لكن محكمة الصلح الإسرائيلية في القدس رفضته، وذلك رغم قبول طلب مماثل من البطريركية الأرثوذكسية في يونيو/حزيران 2008 لمنع حفريات شرعت بها بلدية الاحتلال وما تُسمى "شركة تطوير القدس" في أرض الحمراء، وسمح للبلدية بدخولها بشرط استخدامها كموقف سيارات فقط.
وكان موقع كنيسة الروم الأرثوذكس نشر بيانا الثلاثاء الماضي دان فيه اقتحام الأرض من دون وجه حق وبلا قرار قضائي، مؤكدا أن البطريركية حين توجهت إلى المحكمة لاستصدار أمر منع اعتداء عام 2008 فوجئت بامتلاك جمعية استيطانية وثائق تربط الأرض بصفقة التزوير السرية المشبوهة عام 2004.
وأضاف البيان "ستتمسك البطريركية بجميع حقوقها وممتلكاتها ووقفياتها ولن تدخر جهدا لحمايتها، ولن تتراجع قيد أنملة عن نهجها المدافع عن الحقوق الأرثوذكسية الذي تبنته بإجماع الكنيسة وأبنائها منذ استلام غبطة البطريرك ثيوفيولس الثالث منصبه كبطريرك للقدس وسائر أعمال فلسطين والأردن عام 2005".
والمفارقة أن البطريرك ثيوفيولس الثالث احتفل مساء يوم تسريب أرض الحمراء مع رئيس بلدية الاحتلال في القدس موشيه ليون بمناسبة عام 2023 الجديد، رغم اشتراك البلدية في واقعة الاستيلاء صباحا، وتصريح رئيسها حول البِركة التي ينقّب الاحتلال عنها في أرض الحمراء قائلا "هذه البركة ذات أهمية تاريخية وطنية ودولية. بعد سنوات عديدة من الترقب سنتمكن من الكشف عنها وجذب ملايين الزوار إلى القدس".
قوات كبيرة من شرطة الاحتلال وفرت الحماية لجمعيات الاستيطان التي استولت على أرض الحمراء (الأناضول)
يقول المحامي مدحت ديبة إن أرض الحمراء تحتوي على 3 قطع، وأُجّرت للجمعيات الاستيطانية ضمن "اتفاقية حكر" لمدة 99 عاما، مقابل ثمن بخس، حيث بلغت قيمة الصفقة 100 ألف دولار تُدفع على 10 أقساط؛ الأول منها بعد توقيع العقد بشهر، أي في سبتمبر/أيلول 2004، والثاني حتى الشهر العاشر منها، ويُدفع مبلغ 10 آلاف دولار كل 3 أشهر، وتودع الأموال في حساب البطريركية الرسمي.
وأوضح ديبة للجزيرة نت أن المستوطنين أخفوا صفقة الأرض عن المحكمة عند تداول صفقة عقارات باب الخليل بسبب ثمنها البخس. وأضاف "كان هناك غُبن شديد وكان يمكن أن تلغى الصفقة حينها، لكن الأوان فات بسبب مرور فترة التقادم وتقاعس البطريركية".
ووقعت الاتفاقية في 31 أغسطس/آب 2004 بين ممثل البطريركية إيرينوس الأول (عُزل لاحقا) الذي منح توكيلا رسميا ليده اليمنى نيكولاس باباديماس لإتمام الصفقة التي أجّرت عدة قطع من أرض الحمراء للجمعيات الاستيطانية التي وقعت باسم شركات وهمية تتخذ من جزيرة العذراء البريطانية مقرا لها. وأقرّت الصفقة أن عائلة سمرين التي تزرع الأرض لا تتمتع بالحماية وفقا لقانون حماية المستأجر.
ويوضح عضو المجلس المركزي الأرثوذكسي في فلسطين والأردن عدي بجالي للجزيرة نت أن "اتفاقية الحكر" المذكورة تمنح شركات الاستيطان مكانة المالك المسجل في "الطابو" (عقد الملكية)، ويمكنها ضمن الشروط المسجلة في الاتفاقية رهنها للبنوك أيضا، مما يعني أنها أقوى نفاذا من أي اتفاقية تأجير عادية كالتي تمتلكها عائلة سمرين.
ويتساءل بجالي: "حسب ادعاء البطريركية، فإنها علمت بصفقة التسريب قبل 14 عاما، فماذا فعلت لإبطالها؟ لا شيء، كان يكفي أن يبطلوا الاتفاقية بسبب قيمتها البخسة. هل ادعاؤهم أن الاتفاقية مزورة ولم يكونوا على علم بها يبرر قبولهم تقاضي الإيجار من شركة الاستيطان، وعدم رفضه وإرجاعه للمودع؟"
يؤكد بجالي وجود وثائق تثبت تأجير البطريركية مساحات شاسعة من الأراضي ومئات الأبنية في حي الطالبية (غربي القدس) للصندوق القومي الإسرائيلي منذ عام 1951 ولمدة 99 عاما. مشيرا إلى تحذيرات موثّقة قُدمت باسم نقابة المحامين الفلسطينيين إلى النائب الفلسطيني العام قبل 10 سنوات، "لكن أوامر جاءت بإغلاق الملف".
رسم إسرائيلي متخيل يظهر مشروع "بركة شيلوخ" الاستيطاني في أرض الحمراء ويظهر مدى قربها من سور القدس (مواقع عبرية)
فور الاستيلاء على أرض الحمراء، نشرت كل من سلطة الآثار الإسرائيلية وهيئة الطبيعة والمتنزهات وجمعية إلعاد الاستيطانية إعلانا مشتركا تضمن رسما متحركا لمشروع إحياء بركة المياه الذي سيقام في الأرض.
وجاء في الإعلان "نحن على وشك الكشف عن أحد أهم المواقع في القدس، سيتم عرضه بالكامل وفتحه أمام عامة الناس، وفي المرحلة الأولى سيتمكن الزوار من مراقبة الحفريات الأثرية، وخلال الأشهر المقبلة سيتم فتح بركة شيلوخ أمام حركة الزوار في إسرائيل والعالم، كجزء من مسار ينتهي عند سفح السور الغربي".
ويزعم الإعلان أن الأرض كانت مركز جذب للعديد من بعثات التنقيب عبر 150 عاما، ثم تجددت عام 2004 على يد علماء آثار إسرائيليين تزامنا مع أعمال بنية تحتية نفذتها شركة "جيحون" الإسرائيلية، وأسفرت عن كشف الجزء الشمالي من البركة التي يزعمون أنها تعود إلى عهد الهيكل المزعوم، وأنشأها الملك اليهودي حزقيا في القرن الثامن قبل الميلاد.
ويؤكد الباحث المقدسي رضوان عمرو أن أرض الحمراء كانت جزءا من النظام المائي لعين سلوان التاريخية، وكانت في الأصل بركتين عظيمتين لتجميع ماء العين لخدمة سكان القدس القديمة.
ويربطها عمرو بآثار بعض الأنبياء قائلا "للأرض علاقة بمعجزات الشفاء التي أتى بها نبي الله عيسى عليه السلام قرب عين سلوان، وببوابة القدس اليمانية التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القدس ليلة الإسراء والمعراج، ولها ارتباط بوجود نبي الله أيوب عليه السلام في السفح الجنوبي للمسجد الأقصى".
جمعيات الاستيطان تستهدف أراضي ومنازل بلدة سلوان تحديدا لقربها من السور الجنوبي للمسجد الأقصى (الجزيرة)
ترتبط صفقة أرض الحمراء بما عُرفت بصفقة تسريب عقارات باب الخليل التي وقعت عام 2004 وكشفت بعدها بعام بين بطريركية الروم الأرثوذكس وجمعية "عطيرت كوهنيم" الاستيطانية.
ونصّت على منح حقوق إيجار طويلة الأمد لفندقي "البترا" و"نيو إمبريال" قرب باب الخليل و22 متجرا تابعا لهما، وبيت المعظمية قرب باب الساهرة (أحد أبواب سور القدس) مقابل نحو مليوني دولار. وبدأ المستوطنون في مطلع ديسمبر/كانون الأول الحالي أعمال ترميم وتهيئة في الطابق السفلي من فندق "البترا" تمهيدا لجعله مقرا لهم.
وتستهدف الجمعيات الاستيطانية بلدة سلوان (جنوب المسجد الأقصى) التي تفوق غيرها من الأحياء المقدسية في أعداد العقارات المسربة، وكان آخرها تسريب بناية سكنية مقدسية في وادي حلوة بالبلدة على بعد أمتار من أرض الحمراء في يوليو/تموز 2021.
المصدر : الجزيرة
الفجر | 04:27 |
الظهر | 11:48 |
العصر | 03:13 |
المغرب | 05:48 |
العشاء | 07:09 |