الجريمة الإلكترونية تدر الملايين على شبانٍ فلسطينيين
الجريمة الإلكترونية تدر الملايين على شبانٍ فلسطينيين

الإثنين | 10/03/2014 - 12:56 مساءً

 

:  «يا عم هذا مال حرام»، بهذه الكلمات برر إبراهيم إنفاقه أكثر من 120 ألف دولار في أقل من عام، وفي مساحة لا تتجاوز 360 كلم مربع هي مساحة قطاع غزة المحاصر، والذي يخلو من أي منتجعات سياحية ضخمة. وأضاف إبراهيم (اسم مستعار) «انفقت على زواجي حوالى 14 ألف دولار، وما دون ذلك فلا أدري كيف تبخر».

أما حسام (اسم مستعار) (29 عاماً)، فيبدو حائراً بما سيفعله بالمال بعد أن تجاوزت ثروته نصف مليون دولار بعد 5 سنوات من التسمر خلف شاشة الكومبـيوتر. ويـقـول: «تـزوجـت، وتملّكت شقة وقطعتين من الأرض، ووضعت لزوجتي مبلغاً من المال في حسابها، كما اشتريت لها ذهباً بقيمة 25 ألف دينار (33 ألف دولار)... فما الذي سأفعله بالمال بعد ذلك؟».

ووفقاً لما جاء في تقريرٍ أعدته صحيفة الحياة اللندنية فإن حسام يخشى من الاحتفاظ بماله الوفير في حساب بنكي، خشية تعرضه لخطر ليس في حسبانه.
ترف شديد، ومظاهر بهرجة غير مألوفة، بدأت في الظهور على سلوك بعض الشبان منذ خمسة أعوام على الأقل، في الوسط الغزي الفقير والمحاصر منذ نحو ثمانية أعوام.

هي «صنعة» لم يستطع أصحابها الاحتفاظ بسرها طويلاً، خصوصا في مجتمع لا تزال تتحكم فيه شبكة روابط اجتماعية وعائلية وثيقة، فبدأت بالانتقال من الأخ لأخيه، ومن الأب لابنه، ومن الزوج لزوجه، ومن الصديق لصديقه، حتى بات عدد المشتغلين فيها يزيد على 20 ألف فلسطيني في قطاع غزة بحسب تقديرات مطلعين على «البزنس» الجديد.

بعد محاولات كثيرة للاقتراب من عالم ظل بمنأى من الإعلام، والملاحقة الأمنية، وافق شاب على التحدث إلينا شرط الحفاظ على سرية هويته. ومن شاب إلى آخر، انفرط حبل «السبحة» المحرمة، وانكشف عالم من الجريمة المنظمة التي لا يعترف أصحابها بارتكابها.

«نحن نسرق دولاً، وليس أشخاصاً» هذا ما يقوله زهير، (اسم مستعار) (35 عاماً) الذي توقف عن أعمال القرصنة منذ ثمانية شهور بعدما جمع مبلغاً من المال مكّنه من الحياة براحة.

لكنه لم يغلق هذا الباب تماماً، فهو مستعد للعودة إليه وقتما يشاء، كما قال لـ «الحياة»: «تعلمت سرقة الـ «آي بيهات» (IP) من صديق لي خلال ساعة واحدة فقط، فلخطوط الاتصالات كود معين تتم السيطرة عليه وربطه مع خطوط أخرى تابعة لشركات وسيطة تعمل في مجال شراء الخطوط وبيعها لمستخدمين آخرين».
ويضيف: «تقوم الشركة الوسيطة بتحويل قيمة الدقائق المستهلكة عبر خطوط لي عبر حساب بنكي في الصين يعود لتاجر فلسطيني، وفي الوقت الذي تصلني فيه فاتورة على حسابي البريدي (الـ «إيميل»)، يصل للتاجر الغزي إشعار بنكي بقيمة الأموال المحولة لحسابه، فيقوم بتسليمها لي نقداً هنا في رفح».
ويقول زهير الذي أنهى دراسة إدارة الأعمال، إنه كان في ما مضى يتعمد إيقاع أكبر خسارة لشركات اتصالات تابعة لأميركا وبريطانيا لدورهما في دعم دولة الاحتلال الإسرائيلي، معتبراً أن قرصنة الخطوط التابعة لدول عربية أو إسلامية «حرام».

وليريح زهير نفسه من عناء التفكير في موقف الدين والمجتمع مما يفعل، توجه إلى أحد المشايخ، الذي أحل له قرصنة «الصهاينة» و «دول الغرب الكافر» شريطة إخراج خمس المبلغ وإنفاقه في سبيل الله.

أما عن المجتمع، فيقول زهير: «بعضهم يحرم ذلك، وآخرون يجدون لنا الأعذار بسبب الوضع الاقتصادي ويعتبرونها شطارة».

ويختلف المشتغلون في هذا المجال في تحديد البداية، فبعضهم يرجعها إلى العام 2005، حينما برع البعض في سرقة الـ «فيز»، التي لقيت رواجاً آنذاك قبل ان تتعسر سبل وصول البضائع الصغيرة والبسيطة التي كانوا يشترونها من أرصدة «الفيز» المسروقة.

فيما يقول آخرون إنها بدأت بسرقة خطوط الاتصالات الإسرائيلية الخاصة بشركتي بيلفون وسيلكوم، إلا أن معظمهم يتفقون على أن سرقة خطوط الاتصالات عبر الانترنت VoIP «Voice over Internet Protocol»، بدأت في العام 2009 على الأقل.. وهنا يختلفون مرة أخرى، فمنهم من يقول إن الحكاية بدأت على يد شاب فلسطيني لا يتجاوز عمره حالياً (34 عاماً) غادر رفح لدراسة علوم الاتصالات في الجزائر، لكنه تورط في جرائم قرصنة (نصب وسرقة) عبر الإنترنت، فرّ منها على أثر اكتشاف أمره عائداً إلى رفح، ليستأنف القرصنة انطلاقاً من غزة، التي لا يعترف بها معظم دول العالم ولا تربطهم بها أي اتفاقات خاصة بتسليم المجرمين الدوليين، أو مكافحة الجريمة الدولية.

وهناك من يقول إن حوالى أربعة شبان يمتلكون ملكات غير عادية، استطاعوا تعلّم فنون هذا العمل عبر الإنترنت ونشره بين أصدقائهم ومعارفهم في رفح، حتى أصبح ملجأ من لا عمل أو لا أمل له، خصوصاً بعد أن نجح معظمهم في تأمين موارد مالية كبيرة ومنتظمة مكنتهم من الانتقال من حال الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش. وهو ما أسال لعاب آلاف من الشبان، الذين التف بعضهم حول بعض لتعلُّم أحدث سبل قرصنة «الاتصالات»، بعد أن جفّت منابع سرقات بطاقات «الفيزا» بعدما أصبح من المتعسر شحن البضائع البسيطة التي يشترونها عبر الانترنت إلى غزة.

ويقسم القراصنة إلى مستويات: المبتدئون منهم، ويعملون عبر برامج بسيطة متوافرة على شبكة الإنترنت مجاناً، للـكشف عن الأرقام المتسلسلة لخطوط الاتصالات وربطها مع خطوط أخرى تابعة لـشركات وسـيطة (المشتري) يدوياً، وفي هذه الحالة، فان العملية تعتمد على التجربة المتكررة والحظ.

أما المستوى الثاني، فيتطلب من المستخدم درجة أعلى من التمكن والذكاء والمعرفة والخبرة، فيعمل قراصنته على تحميل برامج أخرى مدفوعة الثمن، لربط عدد كبير من هذه الخطوط، وتحديداً برنامج (VoIP router)، الذي يمكن أن يصل بين 1000 مكالمة في الوقت نفسه.

أما المستوى الثالث، الذي يتقنه عدد أقل من هؤلاء القراصنة المتمرسين، فيعمل بأسلوب أكثر تطوراً وأكثر أمناً، ويعتمد على استئجار كمبيوتر من بعد في إحدى الدول الأوروبية بمساحة وسرعة تتراوح بين 32 إلى 64 غيغا بسعر يتراوح بين 200-300 دولار شهرياً، ويحمل اسم «سطح المكتب البعيد»، يقومون بتغذيته بالخطوط الخاصة بكل شركة في مجلدات منفصلة، ويقوم هذا الكمبيوتر بإجراء عمليات الربط أوتوماتيكياً.
وتعد الطريقة الأخيرة الأقل تطلباً لجهد القرصان ووقته، والأكثر ربحاً بطبيعة الحال.

ويقدر الصراف هاني (30 عاماً) أن قرصنة الخطوط تدر على أصحابها في القطاع أكثر من 5 مليون دولار شهرياً.

ويسلم الصراف الشاب الذي ورث «الكار» (المهنة) عن والده، ما بين 300 إلى 400 قرصان مبالغ مالية تتراوح بين 300 إلى 800 ألف دولار أسبوعياً، بعد وصول إشعار بنكي له من حسابه في الصين من ثلاث شركات وسيطة يتعامل معها.ولا يعتمد التجار المشتغلين في هذا المجال على التحويلات البنكية الطبيعية، بل على نظام «سلمني هناك، أسلمك هنا».

وهو ما يوضحه هاني لـ «شباب»، قائلاً: «هناك تجار كثر لديهم تجارتهم الخاصة في الصين ويحتاجون لسيولة لتمويلها، وبدلاً من أن يلجؤوا لتحويلها إلى الصين أو مصر أو غيرها عبر الطرق الرسمية ودفع عمولات بنكية كبيرة عليها، أقوم بتسلم المبلغ في غزة، وأصرف لهم المبلغ نفسه من حسابي البنكي في الصين أو مصر». وحول الموقف القانوني من هذه العملية، يقول هاني: «محدش له عندي حاجة، أنا أتعامل مع شركات مرخصة ورسمية، تشتري، وتدفع، وأنا حر التصرف في حساباتي البنكية». ويقدر هاني عدد الشبان الذين يعملون في قرصنة الخطوط بأكثر من 20 ألف شاب.

وحول خلفياتهم العمرية والوظيفية قال: «هناك ختايرة (كبار في السن) في الستين من عمرهم، يأتون إلي طلباً لنقودهم، إلا أن معظمهم شباب».
وفي وقت يؤكد ما ذهب إليه زهير وإبراهيم، من أن غالبيتهم من موظفي السلطة المستنكفين (عن العمل بعد سيطرة حركة «حماس» على قطاع غزة)، إلا انه كشف عن دخول آلاف الشبان المحسوبين على حركة «حماس» وحكومتها وأجهزتها الأمنية إلى هذا «الكار».

وقال وهو يشير إلى علامات وهمية على كتفه الأيسر: «أتعامل مع رتب... فاهمة شو يعني رتب» في إشارة إلى رتبهم العسكرية والشرطية.
ويؤكد أن 90% من هؤلاء القراصنة هم من مدينة رفح جنوب القطاع، على رغم أن أعداد المنضمين يومياً لهذه التجارة الرائجة في ازدياد في أماكن متفرقة من القطاع.
ويزعم إبراهيم أن هناك قراصنة لا ذمة ولا ضمير لديهم، يسرقون العربي قبل الأجنبي، لا يهم من، المهم «المصاري»، وهناك شبان قرصنوا شركات في غزة، ومنها gazafone»، وهو ما أكده فعلاً رئيس قسم الاتصالات في الشركة العاملة في مجال بيع المكالمات الدولية المهندس حسام مقداد، قائلاً إن الشركة خسرت تسعة آلاف دولار في يوم واحد قبل اكتشاف قرصنة شاب فلسطيني على سيرفرات تستأجرها الشركة لتحويل المكالمات، وهي ربع قيمة الخسارة الفعلية التي تحملتها جهتان أخريان معنا، وهي شركة الاتصالات الخارجية، وشركة الاتصالات الفلسطينية ونحن».

وحول الإجراءات القانونية التي اتخذتها الشركة قال مقداد: «تقدمنا ببلاغ في النيابة العامة ضد هذا الشاب بعد أن صار معلوماً لدينا، إلا أننا في النهاية قمنا بحل الموضوع معه داخلياً، حيث أعاد لنا جزءاً بسيطاً من المبلغ، وتعهد بعدم تكرار ذلك بعد أن ادعى أنه لم يكن يعلم أن شركة فلسطينية ستتضرر من سطوه على الشركة الأم».

ويربط إبراهيم بين العمل في هذه السرقات وتعاطي المخدرات بأنواعها، خصوصاً الحشيش والترامادول المشهور بـ «الترامال»، ويقول انه توقف عن هذا العمل منذ فترة لأنه أدرك أنه في طريقه لخسارة نفسه بسبب إدمانه تعاطي الترامادول.

ويدافع زهير عن نفسه وعن زملائه في القرصنة، قائلاً إن هناك شبان استخدموا هذه النقود في اتجاهات صحيحة، مثل الزواج وتأمين المنزل والسيارة، وآخرين افتتحوا مشاريع تجارية مثل محلات بقالة كبرى (سوبرماركت) ومكاتب تاكسي، وبيع سيارات، ومراكز كمبيوتر وغيرها.

من جانبه، قال المتحدث باسم جهاز الشرطة في القطاع المقدم أيوب أبو شعر لـ «شباب»، إن الشرطة تتعامل مع أي شكوى يتم تقديمها من أي مواطن فلسطيني أو حتى من خارج فلسطين.

وأشار إلى شكاوى تقدم بها عرب عبر موقع الشرطة الإلكتروني ضد مواطنين من القطاع، تحركت الشرطة على أثرها لاستدعاء المشتكى ضدهم والتحقيق معهم، وبعد تبين صدق الشكوى نجحت الشرطة في إعادة الأموال المسروقة لأصحابها.

وفي خصوص قرصنة الاتصالات، قال: «نحن جهة تنفيذية ننفذ القانون وأوامر النائب العام، ولم يسبق أن تقدم أحد بشكوى حول هذه السرقات».

ويقر أبو شعر بعلمه وجهاز الشرطة بضلوع شبان فلسطينيين كثر في أعمال قرصنة وسرقات، من بينهم أشخاص من الأجهزة الأمنية نفسها، إلا أنه يلقي باللوم على غياب القانون الذي يُجرّم مثل هذه الأفعال، ويسائل الناس عن ذممهم المالية، وثرائهم المفاجئ. وهو ما وافقه عليه الدكتور في السياسات التشريعية عدنان الحجار، الذي أشار إلى تعطل تحديث قانون العقوبات الفلسطيني بسبب حالة الانقسام.

وأكد على ضرورة أن يتم تطوير القانون بحيث يجرّم مثل هذه الأفعال، ويواجه هذه الجرائم الحديثة، منوهاً إلى أن غياب قانون من أين لك هذا؟ يوفر بيئة خصبة لثراء البعض بطرق غير مشروعة من دون أن يكون هناك حسيب أو رقيب.

ولفت إلى أن القرصنة جريمة جنائية دولية، لكن مرتكبيها أفراد وليسوا دولاً، وهناك مطالبات على مستوى العالم باتفاقية دولية لملاحقة هذا النوع من الجريمة.
وذكر الحجار أن السلطة الفلسطينية جزء من جهاز الإنتربول الدولي، إلا أن سيطرة «حماس» على القطاع أوقف هذا التعاون، خصوصاً أن دولاً كثيرة في العالم ترفض التعاطي مع حكومة غزة.

إذاً، يبدو أن أيدي القراصنة الفلسطينيين ستظل طليقة لإلحاق مزيد من الخسائر بمختلف أنواعها بجهات عدة في انتظار قانون يجرّمها، ووحدة وطنية تعيد للسلطة الفلسطينية صلاحيتها بملاحقة مثل هذه الجرائم الدولية بالصلة مع جهاز الإنتربول الدولي، والاتفاقيات الدولية الخاصة بملاحقة الجرائم الإلكترونية.
كما ستظل أعداد المنضمين لهذه الجرائم في ازدياد طالما أن السارق يفلت من العـقوبـة، واعتقد المحيط بأنها «شطارة».



التعليـــقات 
جميع التعليقات تعبر عن وجهة نظر اصحابها وليس عن وجهة نظر طقس فلسطين

النشرة الجوية
جاري التحميل ..
أحدث الاخبار
أوقات الصلاة
الفجر 04:30
الظهر 12:37
العصر 04:17
المغرب 07:16
العشاء 08:45